"28- ديسَمبِر - العاشرة مساءً"


شعرتُ بضيقٍ شديد وزادت حاجتِي لتعبئة صدري بالهواء النقيّ، ارتديتُ ملابسِي ونزلتُ لأتمشّى قليلًا علّ لهيبي ينطفئ. لا أعرفُ كيف قادتني قدماي إلى منزلك، كنتُ واقفة تحت نافذتك أنظر إليها بدون خوفٍ من أن يشاهدني أحد، لم أحسب الوقت ولا المكان.. فقط وقفتُ أستنشقُ هواءً تخلّلهُ عطرُك قبلًا. 

بدأتِ السماء تُمطر مطرًا خفيفًا، كانت الشوارعُ هادئة احترامًا لحضرةِ الشتاء. لم أهتم كثيرًا وتغاضيتُ عن تلك البرودة التِي اكتسحت جسدِي. أخذنِي ذلك الشعور إلى لقائنا الأول.. كان الجوّ مماثلًا لذلك الطقس، يومئذٍ كُنت أسير إلى جانبكَ دون أن أنظُر إليك، فقط أعطي قلبي حقّه للإطمئنانِ في وجودك. سكتَ الكلام عن الكلام وتفوهت شفتاي صمتًا وعبّرت نظراتِي إليك كل حينٍ عن دفء يغمُرنِي وأنا بجانبك، كُنت تعلم جيدًا بخجلِي الكبير وقدرتي الضئيلةِ على التحدُّث؛ لذلك ظللتَ تتحدث أنت بلا توقف، استمعتُ إليك بإنصات وأنا ألتفتُ إليك بغضبٍ كُلّما ذكرت اسم فتاةٍ من صديقاتك، قُلت لي يومها باستفزاز: 

-متضايقه ليه؟ غيرانه؟ 

-لأ خالص، أغير ليه؟ أنا واثقه في نفسي يا حبيبي! 

-حلوة حبيبي منك.

قلتها مشاغبًا، لأرد عليكَ بصوتٍ ساخر: 

-لأ يا بابا دي ردح مش مدح متعلاش في سقف طموحاتك. 


ضحكنا سويًا ملء شدقينا، كانت آخر مرةٍ ابتسمتُ فيها من قلبِي فغيابك اطفأ الشغف بداخلِي وأصبح العالم بدونكَ حالِكٌ كحالِي تمامًا. 

أنا في حاجة مريرة إلى البُكاء، ولكنّي أريدُ أن أبكِي وأنا متوسّطةُ لأضلُعك، أريدُ الصراخ طويلًا بلا توقّف، كذلك الصراخ الذي أحرقني يوم فقدانك. اشتقتُ إليكَ كثيرًا.. اشتقتُ لصوتك الذي يسخر منه الجميع ووحدي من وقعتُ أسيرة عشقه، اشتقتُ لنظراتك التِي كانت تضمّنِي وتُهدئ من روعِي، إلى ابتسامتك عندما تنظر في عينيّ فتتورد وجنتيّ خجلًا.. تلكَ التفاصيل التِي لم أقابلها إلا معكَ قط، ولم يستطع أحد إعادتها أبدًا! 


تأخر الوقت ولم تفتح الشُرفة بعد، كان لديّ أمل لرؤيتك ولكنك كعادتك رددتنِي خائبة فعدتُ أدراجِي قبل أن يتأخر الوقت أكثر من ذلك، في طريقِي لاحت ذكرى بعيدة أودّ لو محوتها من ذاكرتِي إلى الأبد، لم أشعُر إلا بسقوط عبراتِي مع اقتحامٍ صوتك مجددًا مُنبّئًا إياي بالرحيل..


                               *   *   *   *   *


موسيقى حزينة احتلت المطعم الذي طالما ارتدناهُ سويًا، أصوات الناي كانت تمثل شجنًا يُعزف على أوتار روحي ببطء.. كانت عيناه تنخفضان في خجلٍ بيّن، بينما واصلت حديثي بثبات مصطنع: 

-يعني عاوز تقول إن دي النهاية صح؟

لم يقوى على النظر إليّ، فأشاح وجهه وهو يقول بصوت متحشرج:

-مش عاوزك تكوني زعلانه، أنا حبيتك بس..

قاطعت صوته ساخرةً:

-بس كل شيء قسمة ونصيب صح؟! آه أنا عارفه الوصلة دي كويس مش مضطر تقول كلام محروق قبل كده مليون مرة.


-بس أنا ماكنتش بضحك عليكي!


-أخرس! أنت مصدق نفسك بجد؟ مش عاوزة أسمع منك كلام يا يونس الأمر منتهي خلاص، ولو خلصت كلامك تقدر تمشي.


كنت أحاول منع نفسي عن البُكاء بأعجوبة، لم أستطع استيعاب الأمر بعد.. كل ما أريده هو أن أصم أذناي عنهُ لكي لا أكرهه، وكأنه استمع إلى أفكاري فقال مُتسائلًا:


- إيمان.. أنتِ كرهتيني صح؟ 


ارتفعت أصوات ضحكاتي بمرارة سرعان ما تحولت إلى صمت مُطبق.. كُنت أحاول الثبات قدر المُستطاع لذلك كان يجبُ عليّ الفرار سريعًا، وقفتُ بقوةٍ واهية، عدلتُ هندامِي راحلة عنه وأنا أنظرُ إليه من خلف كتفي، وقُلت بجمود: 

- ده سؤال أقدر أجاوبُه لو كنت بتكلم مع راجل، يعني تحديدًا مش أنت! 


                                 *  *  *  *  *

الحُبّ أحجية كُبرى طالما عجزنا عن حلّها، أينما اضطرب قلبك؛ أصابتكَ لعنة احتلاله. منذُ أصبت بكَ داءً وأنا لم أستطع الفرار منك، حاولت كثيرًا التخلّي عنك، حتى أنني قد خضتُ علاقة جديدة لأثبت لنفسي أنني تخليتُ عنك للأبد ولكني اكتشفت أنني لم أتوقف عن حُبّك أبدًا. 

كانت ليلة مريرة، لا أعلم كيف وصلتُ إلى منزلي ونمت كل هذا الوقت، حاولت النهوض ولكنّ جسدي كان يئن ألمًا من كثرة السير بارحًا، تحاملتُ على نفسي وقمت متأففة لاعنة إياك واليوم الذي قابلتُك فيه. 

وقفتُ أمام المرآة أنظر إلى ملامحي التي شاخَت قبل المشيب.. شعري الطويل، عيناي الواسعتان، بشرتِي البيضاء، شفاهي الوردية، ألقيتُ إليّ قبلة في الهواء ثم قلتُ بحسرة: 


- واللهِ قمر، ده أنا خسارة فيك أصلًا يا أهبل يا اللي مش بتقدر النعمة.. قال سايبني ورايح للسلعوة اللي مش باين قفاها من وشها. 


استغفرت سرًا وأقررت التوقف عن وصلة التنمر التي بدأتها لتوّي. ذهبت إلى هاتفي وأغلقته سريعًا بعدما شاهدت صورته التي قد وضعتها له ونسيت تغييرها، وجدت الهاتف يضيء مرة أخرى، كان هذا رقم صديقتي، ترددتُ في الإجابة ولكن أمسكت الهاتف أخيرًا وحادثتُها: 


- فينك من إمبارح يا إيمان قلقتينا عليكِ! 


كان هذا صوتها زاعقًا، لن أناقشها طويلًا فمعها كامل الحقّ: 

- مفيش ياستي كُنت في مشوار ورجعت متأخر.


-مشوار عند بيت يونس صح؟ 


اتسعت عيناي بدهشة، ضيّقت من حاجبيّ وقلتُ لها بذهول: 


-أنت عرفتي ازاي؟ 


- لأ مفيش يا حبيبتي، هو شافك بس وقال لعبد الله أخويا لما اتقابلوا مع بعض قد ايه كان مستغرب. 


-بتهزري! يا فضيحتك يا دودي..


-أنتِ ليكِ نفس تهزري! 


أخذت نفسًا عميقًا ثم قلت بهدوء: 


- لا مش بهزر، النهارده كام في الشهر؟ 


-28 إن شاء الله! 


-فل، وده معناه؟ 


أتى صوتها ساخرًا: 

-إن الهانم كانت بتحتفل بالذكرى السنوية لإنفصالها عن الأستاذ! إيمان فوقي ده مش تاريخ جوازكم ده تاريخ قتلُه ليكِ يعني مفروض تمحيه من حياتك للأبد، بقالك سنين بتلفي في نفس الدايرة.. أنت متعبتيش؟ 


-أنا تعبت فعلًا.


بدأت صوتي يختنق وكدتُ أوشك على البُكاء حتّى قالت لي بأسف: 

-أنا آسفة يا إيمان، أنا خايفه عليكِ مش أكتر.. 


- لا عادي ولا يهمك، أنا كويسه.


-هتكوني في بيتك ولا هتنزلي النهارده؟ 


التقطتُ أنفاسي وحاولت الثبات جاهدة وقُلت لها: 


-هنزل اتمشى على البحر شويه.


-طيب حلو أوي، ساعتين ونتقابل هناك في مكان القاعدة بتاعتنا.


قالت ذلك ولم تترك لي أي فرصة للرفض وأنهت المكالمة سريعًا قبل أن أخبرها أنني أود البقاء وحيدة.


                                ****

"حين تفارقنا، أَدرَكْتُ إن بإمكاني التَنَفَّس بلا روح! وأن الأيام التي تمضي، تمضي وكأنها لا تمضي! عرفت أن بإمكان المرء أن يموت رغم استمرارية الحياة في عبث وفوضى! أيقنت إن للفِرَاقُ سَكَرَاتُ لا يعلم عنها شيء إلا المُفَارِق. -حورية الجمل" 


من قال أن الحياة لا تتوقف على أحد؟ نعم هي لا تتوقف ولكنها تنطفئ، نستمر في كوننا أحياء رغم موتنا، نكمل كل شيء بدأناه وكأن شيئًا لم يكُن وفي ظُلمة الليل نترك لأرواحنا العنان لتعبّر عن آلامها. تجهّزت للرحيل، حملتُ حقيبتِي ووضعت سماعة الهاتف في أذناي، شغلتُ موسيقاي المُفضلة، استمتعت بصوت (عمرو دياب) الذي كان يقول في المقطع المُقرب إلى قلبي: "أنا مكانش الحُب عُمره في نيتي، وأنا معاك غيرت رأيي وفكرتي"، هذا المقطع دائمًا ما يُذكرني بك، يوقظ بداخِلي ذكرى بعيدة أبت أن تغفل عن ذاكرتي، تجعلني أشعر وكأنك أمامِي الآن، أتلمس ملامحك التي احفظها عن ظهر قلب، أشتمُّ رائحة عطرك، أرتوِي بابتسامةٍ منكَ اشتقتُ إليها كاشتياقِ أمٍ لوليدها. 

 أشعلت لفافةَ تبغٍ ضاربة بنظراتِ العامَّةِ صوب الجحيم، وقررت أن أذهب إلى الشاطئ سيرًا، ظلّت تفاصيل ذلك اليوم المشئوم  تلوح في خاطري لأشعر بنيرانٍ تحرقُ قلبي وتدفعني للبُكاء ولكن لن أبكي، سأظل صامدة حتى أعود إلى وسادتي ليلًا ثم أبكيكَ كأول يومٍ فقدتُك فيه ورحلت عنّي إلى الأبد.

قطع أفكاري صوت هاتفي، يبدوا أن "سحر" ستقتلني لتأخري، أجبتها قائلة: 

- أنت عارفه إنك قطعتي عني صوت عمرو دياب الوقتي؟ 


-أنتِ عارفه إني واقفه بقالي ساعه مستنياكي؟ 


-ما أنت اللي هبلة يا سحر ورايحه على الميعاد، أنت مبتتعلميش أبدا؟ 


أتى صوتها ساخرًا: 

- لما الهانم تبقى تتعلم إزاي يبقى عندها كرامة، هتعلم أجي متأخر عن مواعيدي معاكِ فورًا.


-احم.. طب اقفلي شكلي بتهان دلوقتي.


ضحكنا سويًا، وقالت لي بصوتٍ مرتفع: 

- اخلصي يا إيمان، واركبي يلا.


- خلاص ياستي أنا لسالي شارع وأكون عندك، أنا هحود الوقتي وأعدي طريق العربيات.


-إيمان خدي بالك وانت بتعدي عشان عارفه إنك بتمشي وسط مليون عربية لغاية ما هتجيبي أجلك في الآخر.



لو لم يحفظك صديقك جيدًا ويعلم أكثر حركاتك تهورًا لا تصادقه بعد الآن. بالفعل كان الطريق مزدحمًا والسيارات تمرّ بسرعةٍ شديدة، ولكنِّي ضربتُ بتحذيرها عرض الحائط، ومررتُ بلا مبالاة ولم أحسب تلكَ السيارة التي أتت مخالفة للطريق، شعرتُ بتزايد خفقات قلبي، نظرتُ إليها بدهشة ولم أقدر على الحراك، تعالى صراخ الناس من حولِي، أريد التحرُّك ولكن قدماي مكبّلتان تمامًا، اقتربت السيارة أكثر، كل ذلك كان في لمح البصر، سمعت صوتًا آتيًا يصرخُ بقوة: 


- حااسبي.. هتموتي، اتحركي يابنتي!! 


حركات مفاجئة من حولي، سيارات تغير مسارها بطريقة سريعة، ارتطامات جعلت الفزع يدبّ في أوصالي، وشعرتُ بأن الدنيا تُظلم في عينيّ ولم أشعر بأيّ شيءٍ بعدئذ.


#الجزء_الأول

#فيطيّاتِالرحيل

#مريم_جمال