تتلاطم بنا أمواج الحياة، تصفعنا بحقيقة ضعفنا أمام ثورانها، نحاول المقاومة ولكن هيهات! فما عاد هنالك طاقة للروح لتستطيع إكمال المسير. حاولت مرارًا أن أفيق من دوامة الغرق، مرّت مدة شفاء قدمي وأخيرًا استطعت السير عليها مرّة أخرى، وقفت بجانبي سحر، أنيسةُ دربِي وعطاء لا بعدهُ عطاء، فمن مثلُها بمثابةِ هبة تربّت بها الحياة علينا بعدما ضنت بهِ في قلوبنا من أهوال.

طوال تلكَ المدة كنتُ أتجنب الحديث عنه تمامًا، أهرب من ذكر اسمه، أحاول صمّ أذناي عن كلّ ما يخبرني بهِ عقلي ويصرخُ بهِ قلبي. ذهبتُ إلى طبيبتي لأبدأ رحلة من التعافي تأخرتُ عنها كثيرًا. 

وعلى عكس ما توقعت، هو الذي استمر في محاولاته بالظهور في حياتي ثانية ولم أقابل ذلك إلا بالإهمال، حقًا البشر غريبوا الأطوار، كل ما هو ممنوعٌ لديهم يصبح في أعلى قائمة الرغبات، يركضون وراء الهباء ثم يبكون أنفسهم حين الفقد؛ فحين الفقد يُستبان الشوق، والحنين، والغُربة! 


جلستُ أمام الطبيبة كعادة كل جلساتي، لأول مرة تطلب مني الحديث عنه بشكلٍ مباشر، لمعت عيناي بحزن ثم أخذت نفسًا عميقًا وبدأت في طرحِ ألمي: 

 يونس كان زي مايّة البحر، شفافة جدًا زي روحه، لما تلمسيها بإيدك تحبيها، تحسيها، يكون عندك شغف تجربي الدخول فيها، ولما تدخليها تدوقي ملوحتها، تجربي غرقها وأذاها، ومع ذلك تحبيها، تبان في كفّ إيدك شوية مايّه بس بتنسي دايمًا أن الماية دي كفيلة تخليكي تروحي بإيدك للهلاك..

كنت بحبه جدًا ومازلت، تعرفنا ببعض كان غريب جدًا، ماسج اتبعتتلي فيها بحبك وكلام لطيف، في البداية مهتمتش أبدًا ومفرقش معايا، مع الوقت بدأ يظهر في حياتي بشكل مبالغ فيه، اهتمامه، كلامه، كان بيعمل كل شيء أنا بحبه رغم إننا مانعرفش بعض حتى، كان بيهتم بيا اهتمام مختلف عن بقية الشباب، كان بيهتم بتفاصيلي! أدق التفاصيل اللي بتلمسني واللي نادرًا حد يعرفها كان هو بيعرف يلمسني فيها، فضلت أقاومه شهور، ولما غاب تعبت، وحصل موقف خلانا نكلم بعض.. 


- طب وقفي خلاص يا إيمان، خدي نفس عميق. 


قاومت تلك الرجفة التي احتلت جسدي وأكملت بصوت محمل بعبق الذكرى: 

- الكلام أخدنا، عيشت معاه أجمل أيام حياتي، حبيت روحه جدًا واتأثرت واتصلت بيها، ماكنتش بضحك من قلبي غير معاه وبعد ما سابني بقى كل  شيء ناقص حتى ضحكتي، كان جميل أوي يا دكتورة بجد وشهم، عرف يوصلني لمعنى الاطمئنان، مش بتطمن غير وأنا معاه، مجرد ما بفكر فيه بحس بريحه غريبة حواليا مميزة بأيامه، زي النسمة المميزة كل يوم الصبح، زي روح وذكرى أول يوم مدرسة، فيه شعور معين وإحساس لكل حاجه وبمجرد ما بنفتكرها نحس إننا بنلمسها تاني بشكل أو بآخر، اداني كل حاجه حلوة وخدني مني ومشى فجأة بدون أي مبررات.. 

كان حلم قصير وجميل جدًا، صعب يتكرر، عيشته بتفاصيله وصحيت منه على كابوس الخذلان.. وانتهى بإن حبي قل بدون أي مقدمات، وكعادة سخرية القدر إن كل شيء.. قسمة ونصيب!


ساعات عصيبة مرَّت ولكنَّني شعرت بأن ثقلًا كبيرا انزاح عن قلبي عندما انتهت الجلسة، توالت الأيام ولم أكمل جلساتي ولم أذهب مرة أخرى إلى الطبيبة، لم أود نسيانه، لا أستطيع تخيل أنني سأبتعد عنه إلى الأبد، كذبت على سحر وأخبرتها أنني أذهب، وأكدت لها ابتعادي عن التدخين، كنت أعلم أني آثمة ولكن لم يعد يهمني أي شيء. 

ذهبتُ إلى الشاطئ، في المكان ذاته التي اعتدت رؤيته فيه، شعرتُ أنه سيأتِي ومع ذلك بقيت جالسة أمام أمواجه. لطم الهواء وجهي فأحسست أنها صفعة إنذار بوجوب الرحيل ولكن عاندت نفسي، أخرجت الهاتف واستمعت إلى صوت نجاة الذي كان بمثابةِ جرح غائر يوقظ كل ما آلمني من قبل:

" أنتَ تروح وتمشي 

وأنا أسهر مانمشِ 

يا اللي مابتسهرشِ 

ليلة يا حبيبي.." 


- لسه بتحبي نجاة؟ 


انتفضت اثر صوته، التفتُّ إليه بسرعة حتى كدت أقع من فوق الصخرة الكبيرة التي كنت أجلس عليها، أمسك بيدي فمرت رعشة بكامل جسدي، وفي ذلك الوقت كانت تلاطم أمواج البحر مساوية تمامًا لاضطراب خفقاتِي، نظرت إليه لا أدري ماذا أفعل.. أأهرب؟ أم أظل جالسة بثبات؟، كان يعلم ما يجول بخاطري فجلس بجانبي ونظر إلى البحر وسألني ثانية: 

- لسه البحر بيفكرك بيا؟ 


- يونس.. أنت بجح. 


- وأنت بتكابري. 


- عاوز إيه؟ كنت خارج مع خطيبتك فَ شوفتني وقررت تعكر عليا حياتي تاني؟ 


-مفيش خطيبتي أصلا، أنا مش خاطب. 


- إزاي؟ والدبلة اللي في إيدك؟ وسحر! هي قالتلي. 


- سحر مين؟ اللي مخلياكي على عماكي؟ 


- تقصد إيه بالكلام ده؟ 


- ماقصدش، أنت ماتعرفيش الحقيقة كاملة ولسه طفلة زي ما أنت يا إيمان متغيرتيش، لسه مش عارفه تفرقي بين اللي بيحبك فعلًا وبيخاف عليكي وبين اللي بيئذيكي بطريقة خبيثة جدًا وكأنه بينفعك وخايف على مصلحتك.. 


كنت أبكي غير مستوعبة لما يتحدث عنه، لا أكاد أصدق مغزى حديثه المبطن، صرخت فيه قائلة: 

- أنت عاوز إيه؟ بتقول إيه؟ أنت تغيب وترجع تشككني في اللي بسببها لسه مستمرة وعايشه؟ عاوز إيه يا يونس كفاية أذى بقى كفاية تعبت!! 


- خلاص همشي، وهبطل أذى حاضر، وخليكِ مغمية عينك وحابه دور الضحية ده ومكملة فيه.


- ضحية؟ أنت جاي تقلب الترابيزة؟ أنت مستوعب بتقول إيه؟ مين فينا ساب التاني؟ مين بعد وبكل برود قال سوري أنا بحبك بس حبك قل جوايا!! قل ليه؟ أهملت فيك إيه عشان يقل؟ ده أنا.. أنا كنت بعاملك كإنك إبني، كإنك طفل صغير بيكبر قصادي وبياخد جزء من روحي وحياتي معاه، حبيتك وحطيت فيك حب الدنيا كلها، حبيت روحك، وشكلك، ودماغك وأسلوبك وكل حاجه فيك أنت مابتحبهاش، كنت عاوزة أعوضك عن كل شيء اتعرضت ليه من الناس اللي حواليك!!  ليه تبعد فجأة كده؟ ليه؟ ليه مش عارفه أنساك، ليه يعدي سنين وأنت ترتبط مليون مرة وتسيب وأنا مش قادرة أتخيل نفسي مع حد غيرك، كل ما بدخل علاقة مبكملهاش عشان مش قادرة أستوعب لسه فكرة أني مش هبقى معاك، أنا عندي أعيش وحيدة طول حياتي ولا أني أكون مع حد غيرك.. أنا عملت ليك إيه عشان تعذبني بالشكل ده يا يونس؟ وفي الآخر جاي تقولي إني عايشه دور الضحية؟ لأ أنت اللي نرجسي وعمرك ما هتعترف بإنك أنت الجلاد. 


- لما قولتلك إني مش هلاقي حد يحبني قدك مكذبتش. 


- تصدق صح؟ دي الحاجه الوحيدة اللي أنت ماكذبتش فيها زي ما بردوا ماكذبتش لما قولتلي إنك مش راجل! أنا ماشيه يا يونس.. كفاية بقى تعبت. 


- عاوز أقولك حاجه قبل ما أمشي.. أنا بحبك يا إيمان، ورغم إني شوفت بعدك كتير بس أنا عمر ما حبيت حد غيرك لكن للأسف اللي بينا اتكسر بسبب غبائي وعارف إننا مش هينفع خلاص نكون لبعض. أنا آسف بقدر كل الوجع اللي جواكي.


هكذا  قالها ثم تركني ورحل، بكيت بحرقة، ظل صراخي يتردد غير عابئة بنظرات العابرين، عدتُ إلى منزلي ولزمت فراشي في صمت، تجاهلت مكالمات سحر المتكررة، دخنت بشراهة حتى كدت أختنق من رائحة الهواء في الغرفة، لا أعلم كم ساعة مرّت ولكن تعالى صوت هاتفي مرة أخرى  وقبل أن ألقيه رأيت اسم عبد الله، فأجبته بصوت مبحوح: 

- عامل إيه يا عبد الله؟ 

- الحمدلله 

كان صوته مكتومًا وكأنه يصارع البكاء، ارتعب قلبي، يبدوا أن سحر مسها سوء، تساءلت بقلق: 

- مالك يا عبد الله صوتك ماله؟ سحر فيها شيء؟ 

- لأ، يونس بس تعب شوية وهو في المستشفى، لو حابه تيجي تشوفيه. 

- ماله يا عبد الله؟!! أنتم في مستشفى إيه؟ 


شعرت بأن دقات قلبي ستتوقف في أي لحظة، ارتديت ملابسي بسرعة وذهبت إلى المشفى لا أعلم كيف ومتى قد وصلت في ذلك الوقت القصير، دلفت إليها وصعدت إلى الطابق الثاني، رأيت عبد الله فاقتربت إليه بفزع وقبل أن اسأله عما حدث وجدت الطبيب يخرج من الغرفة ويقول بكل هدوء: 

- البقاء لله.

هل جربت قبلًا شعور أن تصبح جثة هامدة في بضع كلمات؟ أن يتوقف الكون من حولك، وتغيب الشمس، وتعتم الدنيا أمام عينيك، أن يتوقف دوران الكواكب، ويتوقف العالم كله ليصمت كل شيء حولك بقدر ارتخاء دقات قلبك معلنة عنكَ انتهاء الحياة. كانت كلماته عملية، رتيبة، قالها ورحل في هدوء وكأنه لم يقتلني طعنًا الآن، ازرقت شفتاي، جحظت عيناي وجفَّ الدمع فيها، ارتعش جسدي، شعت بأنني سأسقط في أي لحظة، أعدت كلماته في أذني مرة أخرى، هززت رأسي بعدم تصديق، اقتربت إلى عبد الله الذي جلس على الكرسي يمسك رأسه في ذهول والدمع يفرّ من عينيه، أمسكته من مقدمة قميصه أهزه بشدة وأنا أصرخ بصوت متقطع: 

- يعني إيه؟ يعني إيييه! هو بيقول إيه؟ أنت سمعته؟ أنت سمعت بيقول إيه؟ مين اللي مات يا عبد الله انطق؟ مين اللي مات؟


لم يستطع الرد فآثر الصمت، تركني أنهار وأكمل نوبة صراخي تلك، حاول الطاقم الطبيّ أن يبعدوني عن الغرفة ولكني صرخت فيهم جميعًا: 

- ابعدوا عني، سيبوني، بقولكم سيبوني، أنا عاوزة يونس، عاوزة اشوفه الوقتي دخلوني ليه.


- يا أستاذة مينفعش صراخك ده، الميت ليه حرمته، حرام عليكِ كده. 


- أسكت! بقولكم دخلوني، أنا عاوزة أشوفه أرجوكم.. والله هموت.. والله تعبت.. عاوزة اشوفه، أنتم كدابين، كلكم كدابين. 


لم يتمكنوا من مقاومة طلبي، وسمحوا لي بالدخول إلى الغرفة، لأواجه أسوأ مشهد لن أنساه في حياتي قط. كان نائمًا على الفراش الطبيّ، حوله أدوات طبية مبعثرة، يبدوا أن الحالة كانت حرجة، كان وجهه مغطى بغطاء أبيض، احتل كذلك باقي جسده، وتناثرت في شتى بقعه الدماء، دنوت إليه لأزيح الغطاء عن رأسه، شهقت بقوة، كانت رأسه تنزف، وعيناه مغلقتانِ وكأنه نائم في سلام، وجهه هادئ، لا تظهر عليه علامات الألم، صحت بهم قائلة: 

- ده نايم! هو عمل حادثة وأكيد تعبان ونايم.. مماتش، بصي عليه كده؟ مغمض عينه أهو ونايم والله. 


لم يردّ أحد عليّ، نظرت إلى جهاز قياس ضربات القلب، فوجدت الخط قد استقام، صوت صفارتهِ كان يخترق روحي لا قلبي، انتبهت إليه لأول مرة منذ دخولي الغرفة، عدت إليه وهنا لم أستطع كتم البكاء، بكيت وكأنني لم أبكِ قط، صوت شهقاتي تردد في الغرفة بأكملها، قلت لهُ بعجز: 


- ليه يا يونس؟ ليه بالله عليك لييه؟ ليه تسيبني بعد ما قولتلي أنك لسه بتحبني، ليه توجع قلبي عليك ليه؟ 

قوم يا يونس، قوم والله أنا مسامحاك، والله مسامحاك من زمان، قوم وهنسى كل حاجه ونرجع تاني، قوم وهنتخطى كل ده يا يونس.. قوم يا يونس، قوم ماتسيبنيش لوحدي والله هموت، أنت مش بترد عليا ليه يا يونس؟ رد عليا بالله عليك بلاش بواخة، رد يا يونس متسيبنيش.. 


احتضنت رأسه بين كفيّ يدي، هبطت عبراتِي فخدشت سطح وجهه المحبب إلى قلبي، نظرت إليه بمناجاة وأكملت في قهر: 

- طب قوم وخليك بعيد، مهم تكون عايش.. ماتحرمنيش منك يا يونس، ماتعملش فيا كده، يونس في أحلام كتير لسه هنحققها، أنا عمري ما نسيتها في يوم.. قوم يا يونس بالله عليك.. حبيبي أنت سامعني صح؟ ماتعملش فيا كده يا حبيبي، عشان خاطري ماتموتنيش.. 


                                  ___


"مرَّت خمسة أعوام على رحيلك يا حبيبي، لقد انتهيت لتوي من إيصال مريم وشذى إلى مدرستيهما، لا تنظر إليَّ هكذا لم أتزوج بالطبع ولكنِّي قمتُ بتبنِّي تلكما الجنتين لأشعر فيهما عمَّا فقدتهُ خلال حياتي، ابتدعتُ عن التدخين يا عزيزي تمامًا، عرفتُ الحقيقة كاملة وكيف كانت تبعدني عنك سحر، لقد اعترفت لي بكل شيء ولكني لم أبتعد عنها، لم أنسى يومًا كل ما فعلته معي وعوضتني عنه..

اشتقتُ إليكَ يا حبيبي، اشتقتُ إليك حدّ انعدام الحياة رغم استمراري بها.. لم أتوقف يومًا عن الكتابة لك، كنت معي في كل خطواتي ولحظاتي.. 

كما لم أتوقف عن حبّك يومًا ولن أتوقف.." 


انتهيت من كتابة الرسالة ثم وضعتها مع الرسائل الأخرى، ذهبتُ إلى الشاطىء فمرَّت رعشة بجسدي لم أستطع السيطرة عليها، لاحت أمام عيني الذكرى، ابتسمت رغم تلك العبرات التي خانتني، تقدمت إلى البحر، اقتربت إلى أمواجه فشعرتُ بأنَّك تحاوطني، ألقيتُ بالرسائل ليتلقفها الموج باحتضانٍ طفيف، عدت إلى الخلف لأرى ذلك الصندوق الذي يجمع كل رسائلي إليكَ يذهب بعيدًا، وعلى سطحهِ كتب بخطٍ عريض.. " في طيَّاتِ الرحيل".


تمت. 


#فيطيَّاتالرحيل

#مريم_جمال