فقد... قصص مريم جمال
أقفُ هنا في الزاوية أراقب تحرُّكاتك، شفتاكِ اللتان أطبقتِ عليهما في غيظ، تبدين شاردة ومعكِ كان قلبي يمعن النظر في أدقِّ تفاصيلك بؤسًا، التفتِّ إلي فجأة لتسكن حواسي وترتبك نظراتِي، حاولت الهرب بعيني بعيدًا لكنكِ باغتِّني بسؤالك:
- كيف هو سبيل الوصال؟
- ألم تلحظيه في مُقلتيّ؟
رفعتِ إحدى حاجبيك ليظهر تحديدهما الفاتن، ابتسمتِ وقلتِ بسخرية:
- تشبهون بعضكم بشكلٍ غريب، تتفننون في طرق استحواذ قلوب من حولكم ثم تذهبون فارين بعدما تنتهون من ملء فراغكم.
- يبدوا أن أحدهم ترك جرحًا غائرًا فيكِ لتوّه.
-أكرهُك.
ألقيتِها في وجهي بدون حتَّى معرفة اسمي، دارت الأيام والتقينا مرَّة أخرى، بديتِ أكثر جمالًا وفتنة، لديكِ شفتين مكتنزتين تسرقان لب من ينظر إليك، وعينين واسعتين تنكعس فيهما زُرقة السماء، ملامح وجهك تعود إلى الستينيات، تحمل عبق كل ماهو عتيق وجميل، جلستِ على طاولتك واضعة فنجان القهوة أمامك، تمسكينه كل حينٍ وترتشفين منه بعمق جعلني أحسده على جذبهِ إيَّاكِ أكثر مني، لم أدع نفسي لتفكيري تلك المرّة فأخذتني الشجاعة وأتيت إليك.. على كُلٍّ بيننا سابقة كُره!
- كيف حالك؟
- كنت بخيرٍ إلى أن اقتحمتَ خلوتي.
- ردودكِ وقحة.
- كأفعالك!
ابتسمتُ مشاغبًا إياكِ، سحبت كرسيًا وجلستُ عليه ليرتفع ضغط دمك، وتحمرّ وجنتيكِ غضبًا. صحتِ بتجهّم:
- ماذا تريد؟
- أريد حبّك.
- أتعرف أين تجده؟ قم مباشرة واخرج من المقهى، سر طويلًا حتى تجد شارة الأمنيات، ادخل إلى المنحنى الذي يليها ستفاجأ بلافتةٍ عليها "في أحلامك فقط"، ضع ما تريد تحتها واغرب عن وجهي.
- لديكِ حس فكاهيّ أيضًا.
- وأنتَ لديكَ فنٌّ خاص في إشعال غضبي.
لا أعرف حقًا لماذا أنتِ بالذات وددتُ مطاردتك، وكأن هناك سحر خاص يربطني بك، كلما حاولت الابتعاد عنكِ أجد قلبي يدنو إليك، كنت السحر والساحر في الوقت ذاته، وما أنا إلا طريق واسع وجدتُك تعبرين إليه رغم هروب العابرين، لو تعلمين أنَّكِ من اقتحمتِ خلوة دربي لما حاولتِ النأي بتلك الطريقة، لو اتطلعتِ على ما يعتري قلبي من ضجيج في حضورك ما هربتِ، أعرف أن رحلتنا طويلة ولا أمل في الوصول ومع ذلك سأستمر في محاولاتي إلى أن انتهي.
تشاركنا القهوة، ضحكنا ملء شدقينا، سرنًا سويًا نستمع إلى صوتِ أم كلثوم، أنظر إليكِ وكأنَّكِ أسطورة هاربة من حكايا قديمة أعثرني الحظّ بها؛ لأدرك أن بعض الصدف قد تحتوي في طيّاتها على أحلام ظننا أننا لن نطالها يومًا. تعمدت اقتحامك، رأيتُ فيك ما افتقدته في نفسي، وأحسست بأن جزءً بداخلك يناديني رغم أنَّكِ لا تفعلين شيئًا سوى إغلاق الباب في وجهي. مرَّت الأيام بجانبك سريعًا وعلقت مرارتها بعيدًا عن قلبينا، أثبتِّ لي أن حدسي لا يُخطئ، ارتبطتُ بك وسكنتِ أنت خافقي، ظننتُ أن لا شيء سيفرقنا أبدًا، حاولنا جاهدًا ألا نكرر ما فعله الخذلان بنا سابقًا، حاولنا مرارًا لكنكِ وأخيرًا.. أفسدتِ كل شيء.
رغم محاولاتي في تعويضك كنتِ دائمًا ما تنغّصين علينا كل ما هو جميل بفرطِ خوفك، لم تشاهدي إلا ما رأيته من ألم بداخلي، حاربتيني على أخطاءٍ لم أرتكبها، ذكرى الماضي وعذابه كان يلاحقك دون إرادة منك، سعيت بكل الطرق إلى احتواء خوفك ولم يأتِ في اعتبارك أنني أصبحت أنطفء يومًا بعد يوم، أن طاقتي تخور ولم أعد أستطع التحمل، وكوني سئمتُ من دفع ثمن لم أرتكبه من قبل.
- أنا آسفة.
لسوء الحظ جلسنا في المقهى نفسه الذي بدأت حكايتنا به سويًا، الغريب تلك المرَّة أنني أصبحت بلا روح، أشعر بأنِّي هالك ولا قدرة لي حتَّى إلى النظر إليك، سمعت أسفك فشعرت بالشفقة علينا، لم أودّ جرحك، قلت بصوت حاولت جعله هادئًا:
- لا داعي للإعتذار.
- أنا أرهقتك معي، لقد كنت الطرف المؤذي لا أنت.
- لا تقولي ذلك، أنا فقط فقدت شغفي.. سأحاول أن أكون بخير لأجلك.
- أنا أحبّك.
طوال تلك المدة لم تلفظيها ولو لمرّة، انتظرت سماعها كثيرًا وفقدت الأمل في شعوري بها، تركت أفعالك فقط تخبرني بها كل حين ولكني لم أكن أحتاج سوى سماعها منكِ. وقفتِ واقتربتِ إليّ، ضممتِ رأسي إلى صدرك لأتنفس بعمق وكأنني كنت على شفا حفرة من الموتِ حتى أتيتِ إليّ بترياق الحياة، حاوطتك وتركتكِ تبكين كما يحلو لكِ، وددتُ مشاركتك البكاء حينئذ ولم أفعل ذلك، اكتفيتُ بزرعك داخلي فقط.
ابتعدتِ عنِّي وكفكفتِ عينيك بيديكِ الجميلتين، عدتِ إلى مقعدك تاركة إياي في سكْرةِ سكوني إثر ضمّك، ابتسمت وسط عبراتك لتشرق شمس كونِي. أكملتِ حديثك بهدوء:
- الخوف داء عجز الأطباء عن إيجاد علاج له، صدقًا حاولت مرارًا التغلب عليه.. لا يمكنك تخيل كيف يعيش شخص يجلس مترقبًا رحيل كل من حوله، ينظر إلى الأشياء بعين الفاقد، لا يستطيع الاستمتاع بأدق التفاصيل خشية تعلقه بها..
- مخطئة، الخوف يعالج بالاطمئنان، باستعادة الثقة، بمواجهته، لن تستطيعي التغلب عليه وأنت تغلقين على نفسك وتتوسطين شرنقة خوفك!
- لا أعرف.. لم تعد بداخلي طاقة للتجاوز، أهلكت نفسي في زاوية التراكمات حتى أطبقت الآلام عليّ، أصبحت الطرف المؤذي لكل من حولي.. يجب علي الرحيل لا أريد إيذاء أحد.
- كفى هراءً، النأي موتة كُبرى تعلق بها الروح ويظل الجسد بعدها جثّة هامدة تنتظر الصعود إلى السماء.. جحيم القرب أهون من لظى البُعد!
صمتِّ يومها ولم أعرف أنه الصمتُ الأخير، ذهبت بعدئذٍ بدون رجعة، اختفيتِ من المدينةِ بأكملها، بحثت عنك في كل مكان ولم أجدك، تفقدتك في وجوه العابرين، اقتفيت أثرك ولكن كل المحاولات باءت بالفشل.
بعد أعوام رأيتك، كنتِ تجلسين معه، ذلك الذي قلتِ لي يومًا أنَّه سبب هلاكك، بجانبك طفلة صغيرة دعوت ألا تكون ابنتك، ولكن الواقع له سخرية أخرى. عيناكِ تلمعان، يبدوا أنك أخيرًا استطعتِ التغلّب على خوفك.. ولم تحسبي أن ذلك الخوف بات أضعافٌ في قلبي!
قررتُ كتابتك، كانت تلك الطريقة الوحيدة التي أستطيع فيها أن أطرح أنيني، تركتُ بين ثنايا السطور رسالة خفيّة لكل من تلظّى بداء النأي ألا ينتظر من رحل عنه أبدًا.
نظرتِ إليّ فارتبكت نظراتك، ابتسمت بسخرية ورحلت عن المكان بأكمله.. رغم أي شيء، لقد كنتِ أجمل العابرين، وأقربهم إليَّ نفسًا بقدر ما سببتيه بداخلي من ألم.. أصبحت في كلّ ذكرى أرتاد نفس المقهى، أجلس على كرسيّك وتلوح أمام عينيّ طيف ابتسامتك، اتدثّر بأثر الحنين، وفجأة رأيت شابًا يجلس شاردًا أحسست فيه بنفسي سابقًا، ذهبتُ إليه وسألته قائلًا:
- كيف هو سبيل الوصال؟
- لا سبل للوصال، نحن لسنا سوى عابرين، كل منا يترك أثرًا بداخل الآخر ويرحل في صمت.
- رأيت الحيرة في عينيك، أيمكنني مساعدتك؟
- هي الحلّ الوحيد، لا أدري أأقترب أم أظل بعيد.. رأيت في عينيها خوف دفين وأخشى ألا تسمح لي بفرصة القرب.
ضحكت وتعالى صوتي حتى نظر لي كل من حولي، نظر لي الشاب بريبة فأخبرته بقهر:
- لا تحاول، أنت لست طبيبًا لجبر ما ألحقه غيرك من أذى، ستعمل جاهدًا في مداواة من حولك حتى تُعلّ أنت.. ولن يبقى لك سوى أنت، وذكراهم بعدما انتهوا من رحلة علاجهم وقد تركوك وحيدًا تصارع رفاتهم.
يا صاح.. الخوف داءٌ عجز الأطباء عن إيجاد علاج له.
قلت له كلماتي ورحلت في صمت، رحلت وأنا ألعن الصدفة التي جمعتنا سويًا.. من
قال أن جحيم القرب أهون من لظى البُعد؟! ليتنا ما اقتربنا أبدًا..
#فقد
#مريم_جمال
إرسال تعليق
0 تعليقات