فتحتُ عيناي شاعرة بألمٍ يسحق جسدي، أكل ذلك كان حقيقة؟ لقد ظننتهُ كابوس مرعب، نظرت إلى سطح الغرفة البيضاء فعلمتُ أنني بالمشفى، حاولت تحريك نفسي ولكني للتو رأيت تلك الجبيرة الطبيّة التي تحاوط قدمي.

 "بركاتك يا يونس" 

رددتُها بداخِلي ومنعتُ نفسي عن الصراخ من شدة الألم، التفتّ حولِي أبحث عن هاتفِي ولكنّي وجدت باب الغُرفة يُفتح وتدخل منهُ سحر الباكية، نظرت إلي بعتابٍ طويل ثم قالت بصوتٍ مرهق من البُكاء: 

- مش قولتلك خُدي بالك يا إيمان! حرام عليكِ أنت ليه بتعملي فينا كده. 


نظرت إليها بأسفٍ وقلتُ لها بهدوء: 

- أنا آسفة والله، ماكنتش آخده بالي من العربية اللي جت مخالفة دي.. أنا قولت إني مت خلاص.


-بعد الشر عليكِ! 


قالتها ثم بدأت في البكاء مرة أخرى، نظرتُ إليها بدفء وأنا لا أجد شيئًا يوفيها حقّها، كانت سحر آخر ما بقى لي في الحياةِ بعدما تخلّى عنّي الجميع، جمعتني معها صداقة مُنذ المرحلة الثانوية، كُنّا دائمًا ما نتشاجر ولكن قلبها الطيب الذي يشبه قلب الأم كثيرًا كان كافيًا لاحتوائي وإشعاري بالأمان، نظرتُ إليها محاولة التخفيف عنها قائلة: 


-واضح إن طه حسين مكانتش أخته الوحيدة اللي شكاءة، بكاءة. 


نظرت إليّ بغضبٍ وقالت بصوتٍ مُنخفض: 

-طيب خلاص مش هقولك على المفاجأة اللي عاملاهالك.


-خير! 


-لأ مش هقول، مش أنا شكاءة بكاءة؟ 


-مين قالك الكلام ده بس يا خبر! ده أنتِ نسمة.. نسمة! 


ضحكنا سويًا ثم اقتربت إليّ وربتت عليّ لأصدر أنينًا، فقالت لي بقلق: 

- حبيبتي أطلب الممرضة تديكِ مسكن تاني؟ 


-ياريت يا سحر، مش قادره من التعب..


ذهبت سحر وتركتني لصراعات أفكاري. شيء مؤلم ألا يجد الإنسان من يذهب إليه في أوج تعبه، منذ وفاة عائلتي في حادث حريقٍ مفجع نجوت منه بأعجوبة وأنا أصبحت وحيدة جدًا، انعزلت عن العالم أجمع، لم يكن بجانبي سوى سحر وعائلتها اللطيفة التي اعتبرتني جزءًا منها، وكثيرًا عرضوا عليّ العيش معاهم ولكني أرفض بشدة. 

أيامي مكررة وخاوية، إلى أن قابلت يونس.. كان حلمًا جميلًا حدّ الوهم، حدّ السقوط في بئر الضياع، حدّ تلكَ الطعنة التي أتتني على حينِ غرة فأنستني من كنت ولم أعد أتذكرني مرّة أخرى. أتت الممرضة وأعطتني المُسكن مرة أخرى ثم خرجت واقتربت من بعدها سحر، حاولت كثيرًا ألا أظهر ألمي أمامها ولكن كنت أشعر بآلامٍ مبرحة في مفترقِ جسدي، ولكنّني تماسكت حتّى مر وقت ليبدأ المفعول وأرتاح قليلًا. 

تذكرت قولها لي بأن هنالك مفاجأة ما، فتساءلت مشخصة بصري إليها: 

-ماقولتيليش إيه المفاجأة بقى؟ 


ضحكت ثم قالت لي رافعة إحدى حاجبيها: 


-يونس برا. 


-بتهزري!


-واللهِ ما بهزر، يونس برا بجد.


-وهو أنا لازم أجيب أجلي عشان أشوفه؟


-أنت مش بتبطلي هزار في أي حاجه؟ 


-لأ لأ مش وقتك، احكيلي بالتفصيل الممل اي اللي جابه هنا، أصل أكيد ماهوش فيلم هندي والصدفه خلته على الشارع اللي عملت فيه الحدثه وجت موسيقى شاعرية بقى للبطل اللي راح ينقذني.


-لأ، أنا كنت معاكي على الموبايل وقت الحادثة، وبعد كده اتقفل ففضلت أتصل كتير لغاية ما واحد رد عليا وقالي اللي حصل وعرفت منه اسم المستشفى اللي رايحين عليها، وكلمت عبد الله أخويا يحصلني وهو كان معاه يونس وبس، جينا كلنا هنا.


-عارفه يا بت يا شاهندة، الأملة الوحيدة في الحوار إن يونس صاحب أخوكي.


ضحكنا سويًا ثم نظرت إلي متسائلة: 

- أدخلهم؟ 


اسندت نفسي بصعوبة، ثم قلت بصوتٍ منهك: 


-لا لا استني، الأيلاينر مظبوط؟ 


نظرت إلى السماء وهي تتمتم بابتهالاتٍ إلى الله، راجية إياه أن يرحمها منّي، ثم نظرت إلي كاشفة عن ابتسامةٍ مُغتاظة: 


- مظبوط يا آخر صبري، متنسيش تشكري الشركة بقى على صدقهم في جودة المنتج.


-ما هما لازم يبقوا صادقين، ده انا دافعه فيه دم قلبي!


-مش هرد عليكي، أنا رايحه أندهلهم.


-سحر! شكلي حلو؟ 


-شكلك عامله حادثة يا حبيبتي!! 


قالت ذلك وتركتني، زادت خفقات قلبِي حتّى ظنتتُ أن صداها يتردد في الغُرفة بأكملها، أخذت شهيقًا وزفيرًا، عددتُ حتى نسيتُ الأعداد بأكملها، كانت لحظة وكأنها عُمر يمرُّ بأكمله، ازداد توتري عندما دلفت سحر إلى الغُرفةِ ومن ورائها أخيها، ومن ثمّ.. يونس. 

نظرتُ إليه بلهفة لم أستطع إخفائها، تشبّعت من ملامحه التي اشتقتُ رؤيتها؛ عينيه اللتان تكادان تختفيان أثناء ضحكه، بشرته القمحية المُحبّبةِ إليّ، شعرهُ الذي حوله من ناعمٍ إلى غجريّ ليناسب صيحات الموضة، كان طوله يفوقني مرّات عدّة، وكان يرتدي قميصًا أصفر اللون، ومن تحتهِ بنطال سماوي اللون، ذلك الزيّ الذي أكرهه وهو يعلم ذلك.


- ألف سلامة عليكِ.


قطع بها الصمت (عبد الله)، لأنظر له بامتنانٍ، ومن ثمّ شكرتُه بصدق: 

- شكرًا يا عبد الله على تعبك معايا دايمًا والله، الله يسلمك يارب.


-بتشكريني على إيه، أنتِ زي سحر يابنتي وربنا يقوينا على مصايبك اللي مبتخلصش.


-بقى كده؟ هتفضل دبش زي ما أنت. 


فجأة أتى صوته فكاد الهواء يختنق في حلقي: 


"سلامتك يا إيمان" 


- الله يسلمك يا يونس.


نظر إليّ بابتسامةٍ، ثم توجه إلى الكرسيّ الذي بجانبي وجلس عليه، وقال مُستطردًا: 

- مالك بقى؟ تعبانه؟


-لأ مفيش، كنت عامله حادثه شويه وبقيت كويسه. 


-بطلي تريقه.


-أنت اللي اسئلتك غريبة!


-طيب أنا غلطان.


نظرتُ إلى يديه فتجمّد العالم فجأة عندما لمحت تلك الحلقة الفضية تتوسط بنصره، شعرتُ بجحيمٍ يحرقُ صدري، تبدلت ملامحي وأصبح يكسوها الجمود، لاحظ ذلك التغيُّر سحر التي كانت تقف على الجانب الآخر من الفراش، جلست بجانبي وتساءلت بقلق: 

- مالك؟ في حاجه بتوجعك؟


-آه حاسه إن عضمي كله تعبني، شكل مفعول المُسكن خلص.


-خلص ايه أنت لحقتي؟ 


قاطعها عبد الله: 

- متديهاش أي مسكنات تاني، احنا هنتطمن عليها ونتأكد أن الأشعة التانية تمام وفي الآخر نروحها.


التفتّ إليها وأنا أغمض عينيّ أمنعهما عن البكاء، ثم قلتُ بهدوء: 

- لو سمحتم أنا مرهقة وعاوزة أقعد لوحدي. 


تنحنح يونس، وانتصب واقفًا ثم قال لعبد الله:

-خلاص سيبهم مع بعض واحنا نطلع برا نخلص أوراق الخروج.


ما إن خرجوا من الغرفة حتى انفجرتُ باكية، وأنا أنظر إليها بضعف، كانت تعلم سرّ تغيري ولكنها اقتربت إلي وجلست بحانبي مواسية إياي:

- ماتزعليش نفسك، ميستاهلش والله. 


-ليه يا سحر ليه؟ ليه بجد؟ ليه هو يعيش ويخطب وينسى وأنا أفضل مقهورة سنين ليه؟ 


ضمت رأسي إليها برفق، ثم حدثتني بهدوء: 

- إهدي الوقت أنت تعبانه ومش وقت كل ده، أنا مرضتش أقولك عشان متضايقيش فعلًا.


-أهدى؟ لأ مش ههدى يا سحر، أنا هحول كل ده لجبروت شغل وهخليه يندم عليا يا سحر، جاء الوقت اللي اقلب فيه الترابيزة وأخرج من خنوعي بسببه.


قلتُ ذلك وأنا أفكر جيدًا بذلك التغيير الذي سيحدث في الأيام القادمة ما إن أتعافى من كسرِ قدمي، أبعدت رأسي عنها وقلت من بينِ بُكائي: 

- أول ما أفك الجبس هروح لدكتورة سلوى، أول الطريق هو التعافي الحقيقي منه.. وأنا حقيقي كنت مأخرة الخطوة دي عشان ماكنتش عاوزة أبعد عنه.


-شاطرة يا حبيبتي، ممكن ربنا ابتلاكي بالحادثة دي عشان الأمور تبدأ توضح قدام عينيكِ.. أنت هتقدري تعدي كل ده وهتبقي كويسة.


- الحمدلله.. أنا راضية يا سحر.. راضية.


#مريم_جمال 

#فيطيّاتِالرحيل


ملحوظة 

"الجزء الجاي خاتمة"