ما الذي يجعل شيئًا مكونًا من عدة أصناف مزجت مع بعضها البعض فأنتجت ما يُسمّى عليهِ "خُبز" بذلك الأهمية؟
كُنت دائمًا ما أرى نفسي بلا فائدة، فقط يستغلّني البشر ليرضوا بطونهم التي لا تشبع، يخبزني هُنا عمّ "عاصي" ومن ثمَّ يتخلّى عني أنا وإخوتِي لنذهب بعيدًا مع أناس مختلفون يريدون القضاء علينا وفقط.
البعضُ منّا يلقى حتفه، والآخر يتركونه حتّى يتعفن فيكون سبيلنا النفايات حيثُ تتشاجر علينا الفئران ومختلف الحيوانات.
جاء يوم خبزي، خرجتُ من المخبز وأنا أشعر بأحاسيس مختلفة. سعيدٌ بأنِّي أخيرًا سأرى ذلك العالم الذي تمنيّت يومًا مشاهدته وخائف لأني لم أعرف مصيري بعد!
جاء عم عاصي وحملني أنا وأخوتي يتركنا خارجًا لكي يبتاعنا الناس، رأيتُ العالم من زاويةٍ مختلفة.. كان هناك من يشتري أعدادًا كبيرة، ويحمل المزيد منا في تلك الحقائب البلاستيكية، والآخر من يقف هناكَ في زاوية بعيدة يلتقطُ من الأرضِ ما يسقطُ منهم ليخبئهُ ويركض سريعًا خشية أن يراهُ أحد. البعض يحملنا ولا يعرف أهمية لنا غير أنه سيشبع رغبته في الطعام والآخر ينظر لنا نظرة المتلهف، المشتاق إلى كسرةٍ منّا تغنيهِ لأيامٍ عن تضور بطنهِ الجائعة.
جاءت اللحظة المشئومة، أمسك بي رجل غليظ وألقاني بإهمال بداخل الحقيبة وذلك أيضا مصير كل من كانوا إلى جانبي. كانت الرحلة طويلةٌ حتى وصلنا إلى شيء غريب البُنيان يطلق عليه اسم "منزل". دلفَ ذلك الرجل ووضع الحقيبة بإهمالٍ على شيء مُستدير مثلِي، وسمعت صوت خطواتِ أولاده وهم يصيحون عاليًا:
" لا نريد ذلك الفطور يا والدي! نريد أن نأكل من المطعم المشهور في منتصف المدينة، ثم أن ذلك الخبز أكله مملٌ جدًا وليس لهُ طعم يُذكر".
هل كُسر قلبي الآن أم أنني أتخيل ذلك؟ يالغبائي أنا لا أملك قلبًا من الأساس ولكنني شعرت بحزن شديد، هل كلامها صحيح؟ ما المفضل في تلك الشطيرة المملوءة بمختلف أنواع الأصناف عنّي؟ كلٌ منا في النهاية سيودي بتلك الجشعة إلى بطنٍ بارزة ستبكي بعدها لاتباع حمية قاسية للتخلص من "الكرش"!!
مرّت الأيام وبدأت في الإنطفاء منذ ظهور تلك البقع الملونة على وجهي الجميل، سمعت صوت هاتف الفتاة وهو يترنم بنغمةٍ مميزة " كتاب حياتي يا عين.. ما شوفت زيّه كتاااب".. هنا بدأت عبراتِي تنهمر، وتذكرتُ رحلتي الطويلة في ذلك البيت العفن وكيف أهانونِي وفضلوا تلك الوجبات المضرة عنّي. جاء الرجل مستعدا للنزول وهو يصيح غاضبًا:
"في المرة القادمة لا تطلبوا مني إحضار خُبز، أنتم لا تشعرون بتلك النعمة.. لقد تركتموه حتّى بدأ في التعفن."
حمل الحقيبة وتوجه بنا إلى مصدرٍ مجهول أظنّه ملهى النفايات، هنا تذكرت عم "عاصي" الذي دعوت له حين أخرجني قائلا (سترك الله) ولكنّي بعدما شاهدتُ كل ما حدث لي قلتُ متمتمًا بغيظ (إلهي تنفضح)!!
هل مصير إخوتِي وعائلتي أيضًا كذلك؟ أم أنهم قد ذهبوا إلى منزل يقدر نعمة الله، ويحسنون التصرف فيها؟! تمنيتُ كثيرًا ألا يكون حتفهم مثلي ومن ثَمّ راقبت الرجل وهو يذهب إلى ركنٍ جانبيّ، وقد تركنا وولّى راحلًا.
 
مرّت ساعات أخرى قاسية حتّى رأيتُ فتاة صغيرة كانت تفتّش في النفايات، ملابسها مُتسخة، وشعرها مُجعد، ملامحها رغم براءتها ولكنّها يغلب عليها قهرُ "الفَقر". رأيتها تذهب إلى الحقائب المدسوسة في الأركان، تخرج منها بقايا طعامٍ مُلقى وتحفظهُ في حقيبة أخرى تحملها بيديها. بدأت تتلفّت حتى وقع بصرها على حقيبتي، وظهر على وجهها أجمل ابتسامةٍ شاهدتُها على الإطلاق، أحضرت أطفال آخرون وكلٌ منهم أتى وأخذ رغيفًا منّا، ولحسنِ الحظ تناولتني هي في سعادة ووضعتني في حقيبتها وهي تركضُ عائدةً إلى عائلتها.
من قال أني غير مُهم؟ أنا فقط وقعتُ مع بشرٍ لا يقدرون ما هو مهم، يركضون خلف المظاهر والمُغريات، ويغفلون عن عدد من النعم لا تُقدر ولا تُحصى. لقد عرفتُ قيمتي أخيرًا وزدتُ سعادة فوق سعادتِي عندما عادتِ الفتاة وهي تلهثُ من أثر الركض، صعدت على رصيفٍ مفروش بملائةٍ بالية مُهملة، تجلسُ عليها سيدة جار عليها الزمن، اقتربت اليها تحتضنها وهي تزفّ خبرها إليها بدفء: 
"أمي.. لقد وجدتُ رغيفَ خُبز!".
تمت.

#مريم_جمال